فنان العرب الذي كلما تعتق صوته زاد محبوه لوعة به، وحزموا حقائبهم بحثاً عن قرار وجواب يهذب أرواحهم ويعيد إليها صفاءها من بين الصخب العابث بالحواس، وقف على المسرح تسلطن وقال بملء فيه: “الأرض أرضي والزمان زمانيا”، وقامته التي كانت تعلو وتعلو بعد كل موال يصدح به، تجعل المسافة بينه وبين منافسيه قضية شائكة لها عنوان يبدأ بالفن وينتهي بالاقتصاد والكيمياء وعلم النفس والاجتماع وربما يصل إلى الجداء الديكارتي والهندسة التحليلية.
وإن ظن البعض أننا في سياق المبالغة إلا أن كل الكلام يحتمل المبالغة حتى يصل إلى فنان العرب محمد عبده فيبدو ملائماً له يعكس شيئاً من حقيقته ويتماهى مع قامته، فهو الفنان الوحيد القادر على استيعاب كل الأوصاف والألقاب دون غضاضة أو حرج، ولعل إقامته لـ6 حفلات غنائية على المسرح في 8 أيام في 4 دول يبين أن الحناجر لا تشبه بعضها وأن كل النواصي دونه حتى تبعث الأغنية صوتاً للجزيرة غيره وأنه من الصعب على فناني الجيل الحالي مجاراته.
تجاوز الأزمة وعاد
وفي أبريل 2011 تعرض لوعكة صحية سافر على إثرها إلى مستشفى “باتشات” في باريس لإجراء فحوصات طبية، وسرت تكهنات حول وضعه الصحي وزاد المتشائمون آنذاك حول نيته الانقطاع عن الأغنية والمسرح، أو تعليق أنشطته الفنية إلى أجل غير مسمى كما قالوا.
وسادت الوسط الفني حالة ارتباك لها ما يبررها كون الحدث ذو علاقة برمز فني وقامة لها قيمتها الاعتبارية في الأغنية العربية، وفي الوقت الذي ظن فيه البعض أن فنان العرب أصابه الوهن، فاجأ الجميع بزواجه من شابة فرنسية تعود لأصول جزائرية، هذه الطمأنة “العبداوية” – إن جاز لنا التعبير – كان الهدف منها توجيه رسالة إلى من يهمه الأمر أن فنان العرب بدأ رحلة جديدة ولازال قلبه تواق للجمال. ويخفق للنظرة الأولى على طريقة الصبيان الأشقياء، وكان كل ما ينقصه هو أنثى تستفز روح الفنان بداخله وتهمس في أذنه بأن يتجنب المعجبات وأن يغمض عينيه إذا تسلطن، وبعد هذه الفترة التي لا يمكن وصفها سوى بشهر العسل الطويل عاد فنان العرب إلى المسرح وجمهوره عبر حفلتين في دبي يفصل بينهما أقل من شهرين الأولى كانت منقولة عبر شاشة التلفزيون السعودي والثانية في ختام مهرجان ليالي دبي عام 2013.
وفي مؤتمر صحافي آنذاك أطلق كعادته تصريحاً شهيراً حين قال: “الفنان الحقيقي لا يعتزله فنه، فهو ليس لاعب كرة له عمر محدد مرتبط بلياقته البدنية، أو ممثلاً تنحصر عنه الأدوار بانحسار أضواء الشهرة، بل الفنان الحقيقي كلما كبر، ازدادت موهبته نضجاً، ومن ثم ازداد ألقاً”، وبالفعل كأنه يصف حالته وما يحدث معه الآن.
دار الأوبرا السلطانية
بدأ فنان العرب رحلة الـ6 حفلات التي يجب أن تدرس في أكاديميات الموسيقى العربية كونها حدث نادر في هذا الزمان الذي وصل فيه حال بعض المحسوبين على الصف الأول في الأغنية بأنهم يترددون، ولا يجرؤون على الغناء أثناء البث المباشر لحفلاتهم، إلا أن محمد عبده يثبت في كل مرة أنه الباقي من أساتذة وسلاطين المسرح في الأغنية العربية، حيث تعاقدت معه دار الأوبرا السلطانية في عمان على حفلتين، ولكن نفاذ التذاكر والإقبال الكبير دفعهم للتعاقد مع فنان العرب لحفلة ثالثة.
وفور إتمام الأمر نفذت التذاكر أيضاً، وكانت مكافأة محمد عبده لجمهور الأوبرا السلطانية 30 أغنية بمعدل 10 أغانٍ كل ليلة صال فيها وجال على السلم الموسيقي، وأعاد فيها شيء من كلاسيكياته مثل “جمرة غضا” و”صوتك يناديني” و”يموت الشجر” و”شفت خلي” و”المسافة” ومن جديده “يا راحلة” و”أخت النهار”.
وأبدعت معه الفرقة الموسيقية بقيادة المايسترو وليد فايد حيث عزف على الناي رضا بدير وكان على القانون العازف الأول صابر عبدالستار
.
وبالقرب من أجواء حفلاته في عمان لوحظ في مقاطع الفيديو المنتشرة له مع الجمهور والإعلاميين والفنانين حجم الروح المعنوية العالية التي كان يتمتع بها أثناء وجوده في بهو الفندق أو في جنبات المسرح، حيث لم تفارقه الابتسامة ولم يسلم أحد من “قفشاته” المعهودة، إضافة إلى الملاحظة الأخرى التي يجب أن يتوقف عندها الفنانين الشاب ألا وهي الأداء العالي والجاد أثناء البروفات رغم خبرته التي اكتسبها طوال أكثر من 5 عقود مع الحفلات.
حفلة “العقال” التاريخية
وبعد الحفلات الثلاث التي أقامها في أيام 26 و27 و29 يناير طار فنان العرب إلى جدة للقاء محبيه في الصالة المغلقة بملعب “الجوهرة” بعد غياب عن حفلات جدة قارب 8 أعوام، وفي هذه الحفلة بالذات أثبت محمد عبده أن المسرح والوقوف أمام الجمهور يتطلب كاريزما وقوة شخصية، فالجماهير العريضة كانت تؤدي دور “الكورال” في أغلب أغنياته وتتفاعل معه بشكل لا يوصف.
ومن اللقطات الجميلة في هذه الحفلة التي أطلق عليها بعض رواد مواقع التواصل حفلة “العقال” – لأنه رمى عقاله على الجمهور – كان “أبو نورة” يصدح عالياً ويفرد عضلاته الصوتية وكأنه لم يغنِ في حفلات منذ زمن، التفاعل الكبير الذي عاشه في هذه الحفلة أعاده للوراء سنوات طويلة.
وبدأ فنان العرب ليلته التاريخية بأغنية “صوتك يناديني”، وغنى مجموعة من روائعه مثل: “أرفض المسافة”، “اختلفنا”، “أخت النهار”، “الله عليها عودت”، “أشوفك كل يوم” وكان الحضور في حالة انسجام وتناغم تام مع أغنياته واختتم فقرته الغنائية برائعة “فوق هام السحب” التي رددها معه الجمهور على طريقة النشيد الوطني وسط حماس منقطع النظير من الجمهور الذي دفع فنان العرب لتحيتهم على طريقته حين رمى عقاله إليهم وسط هتافات ضجت بها الصالة الرياضية.
الدوحة ثم الكويت
وبعد حفلة جدة انتقل إلى الدوحة للمشاركة في مهرجان “ربيع سوق واقف” يوم 1 فبراير، وغنى أمام الجمهور في المسرح المفتوح حيث بدأ حفلته بأغنية “يا راحلة” التي لازمته في أكثر من حفلة، ثم “يا سحاب على الساحل” وقدم باقة من أغنياته مثل: “خريف” و”أنادي ياهلي” و”الأماكن” و”أشوفك كل يوم” في حفل استمر حوالي 3 ساعات اكتظ المسرح الرئيسي بالجمهور.
ووضعت شاشة كبيرة خارج مقر الاحتفال للجمهور الذي تابع الحفلة التي كانت منقولة على قناة “الريان” مباشرة، وبعد استراحة استبدل فيها فنان العرب ثوبه وغترته عاد ليطرب الجمهور بـ”مذهلة” و”أحلى من العقد” و”أيوه” و”اختلفنا”. وشاركت مع فنان العرب في الدوحة فرقة المايسترو هاني فرحات، وتميزت هذه الحفلة بعدد من المواويل التي تمايل معها الفنان الكبير وجمهوره والتي كانت تتطلب منه مجهودا وأداء عاليا لم يبخل به وكان في الموعد كعادته.
ثم اختتم محمد عبده رحلته الفنية الخالدة بالمشاركة في مهرجان “فبراير 2017” وذلك يوم 3 فبراير في الكويت، على مسرح دار الأوبرا، حيث كان الحدث الأبرز إعادة غناء “خطأ” التي لم يقدمها على المسرح منذ السبعينات، وغنى كذلك “يموت الشجر” و”أخت النهار” و”المعازيم” و”ماعاد بدري” و”الله معك” و”بس لحظة” و”على البال”، وفي هذه الحفلة عادت للمشاركة معه فرقة المايسترو وليد فايد التي كانت بمستوى الحدث في جميع حفلات فنان العرب.
وليد فايد: صوت محمد عبده لا يتعب لهذا السبب
قبل سنوات سأل المذيع محمود سعد المايسترو وليد فايد – قائد الفرقة المصاحبة لفنان العرب في حفلاته الأخيرة – في إحدى لقاءاته المتلفزة عن سبب عدم تأثر صوت محمد عبده رغم أنه يغني لساعات طويلة لا يمكن أن يؤديها أي فنان آخر، فأجاب بأن فنان العرب من الأصوات التي تربّت بشكل صحيح، وعندما يغني ساعة بعد ساعة تجد أن صوته يحلو أكثر على حد وصفه.
وقال: “الأستاذ محمد عبده كلما يغني يحمى صوته زي (ماطور العربية).. ويسخن ويتجاوب مع الجمهور”. وأضاف: “عندما يبدأ في حفلاته بأغنية يختار أغنية بدون (جوابات) عالية، ويبدأ بالأغاني التي فيها طبقات متوسطة وهدوء وتمرين للحبال الصوتية بحيث لا تنشد بسرعة.”
وبين فايد أن فنان العرب يمتلك ميزة أن “عنده تسخين تدريجي من خلال اختياراته وذلك لتجربته الكبيرة بحيث يختار يفتح صوته بأغنية معينة، على عكس بعض الفنانين الذين تتعرض أصواتهم للتعب بسرعة والإجهاد بسبب عدم التسخين أو أنها ليست مدربة أو مؤسسة بشكل سليم”.