يعتبر شهر رمضان لكل المسلمين في العالم أياماً مباركة تزرع الفرح والسرور، لكنه في خيام المهجرين والنازحين العراقيين شيء آخر وذلك جراء المحنة التي يعيشونها، حيث غاب عنه الكثير من التقاليد الرمضانية واستمرت فيه رحلة البحث عن ملاذ آمن ولائق.
“كأنّه حلم أو ما يشبه الحلم”، قالها محدثي الشيخ، الذي شارفت أعوامه على عتبة السبعينات؛ وخوفاً من أن أرى الدموع التي ترقرقت في عينيه تشاغل بنكش التراب الذي أمامه بعود التقطه من الأرض.
ثمّ عاود الحديث وكأنه يتحدث مع نفسه، “بين ليلة وضحاها نكون أنا وعائلتي وجيراني وآلاف العوائل التي تنام بعد أن تسمع صوت المؤذن وهو ينادي: إمساك؛ أو بعد أن ينتهي التلفاز من بث الدعاء الرمضاني الخاص بتلك الليلة، نجد أنفسنا بين خيارين أحلاهما مرّ إما البقاء تحت سيطرة الدواعش ونواياهم الشريرة أو النزوح باتجاه المجهول، وها أنت ترانا في العراء نسكن خيما تخشى التنفس فيها بقوة لكيلا ترعب النائمين جوارك، فكل شيء صار مبعث رعب حتى أبسط الأفعال”.
سألته “ورمضان”، فردّ عليّ: “واجب وأجره ثابت إن شاء الله برغم الحرّ والجوع وانعدام المواد التموينية”، وكأنّه تذكر شيئا فابتسم قائلا، “تعرف.. الغريب في الوضع كله هو إنك ووسط هذا المجهول هناك من يحرص على إيقاظك للسحور مارا بالخيم وهو يضرب طبله،
سحور سحور، وهو يعرف أننا قد دبرنا أمر الإفطار بصعوبة بالغة، لكنه المسحراتي الذي أعاد إلينا ذكريات الزمن الجميل”.
منافسة الطبل مع الموبايلات
ما ذكرته من حديثي مع الرجل السبعيني “أبو مقداد” ليس جزءا من “قصة قصيرة” ولا هو مشروع “فيلم تسجيلي” لكنه مقطع عرضي لحال آلاف المهجّرين هذه الأيام، فمع غياب الكهرباء التام فقدت الهواتف النقّالة غرورها المتمثل بجرس التوقيت الذي كان ينبّه النائمين لوقت السحور، ولذلك فإن المسحراتي أو “أبو طبل” كما يسميه العراقيون قد عاد إلى واجهة المشهد الرمضاني وبقوة.
وأبو الطبل هو اللقب الذي يطلقه البغداديون على المسحراتي ويسميه أهل المحافظات الجنوبية “أبو طبيلة”، أما في دول الخليج العربي فيطلق عليه “القريقعان” إضافة إلى تسميات شعبية أخرى.
أحد الجالسين جوار أبو مقداد قال لنا: قبل النزوح كنّا نسهر حتى الفجر مع الفضائيات وبرامجها المنوّعة وتجد الشباب يستغلون الليل للدردشة مع أصدقائهم في الفيسبوك لحين موعد السحور، ولذلك لم نكن بحاجة شديدة لأبو الطبل”.
ويضيف بحسرة، “أما اليوم ونحن بهذا الوضع فألف رحمة على والديه لأن الواحد منا ما إن يضع رأسه على المخدّة حتى ينام كأنه قتيل”.
مهنة لا تخلو من مخاطر
وهناك ناس تناوبوا على القيام بها أبا عن جد، كما هناك متبرعون يقومون بهذه المهمة داخل حدود المنطقة السكنية التي هم فيها فقط، وبالتأكيد أن القائم بها يشعر بالمتعة ولا ينتظر سوى الثواب وأحيانا لا تكتمل فرحته إلا حين ترافقه مجاميع الأطفال وهم يرددون معه “يا صايم وحّد الدايم” أو “يا نايمين اكعدوا”، فيجب إيقاظ الناس قبل ساعة على الأقل، من أجل تناول طعام السحور قبل أن يعلن المؤذن عن (الإمساك).
مهمة ليست شاقة ولكنها ليست سهلة ولا آمنة في الظرف العراقي المضطرب، فقد قال لنا مصدر أمني، “إن مسلحين مجهولين يستقلون سيارة حديثة أطلقوا النار قبل أيام على مسحراتي لدى مروره في شارع العمل الشعبي بمنطقة العامرية غربي بغداد، مما أسفر عن مقتله في الحال.
وكان تنظيم داعش قد فرض سيطرته على مدينة الموصل وعلى مدن عراقية أخرى، ما أدى إلى نزوح مئات الآلاف من الأهالي إلى المناطق المجاورة في إقليم كردستان أو إلى حواضن آمنة أخرى في الوسط أو الجنوب.