تختلف عادات وتقاليد مجتمعنا اليوم عمّا كانت عليه بالأمس، نتيجة ما نشهده من تطوّر تكنولوجي وعلمي وانفتاح الثقافات بعضها على بعض. قد لا تكون ظاهرة المساكنة جديدة على المجتمع اللبناني، لكنها تكثر في أيامنا، وبعدما كانت سريّة في فترات معيّنة باتت علنيّة وواضحة.
ما زال مفهوم الحريّة غير متفق عليه في لبنان، قد يرى البعض أنّ حريته مطلقة من دون الحاجة إلى الالتزام بالقواعد، فيما يجد آخرون أنّ هناك حاجة لتغيير النظام لأنّ المجتمع تطوّر وما عاد يحاكي تطلعاتهم، أمّا البعض فراضٍ ومتعايش مع العادات ولا يقبل الخروج عنها تحت أي مسمى لأنّ الحريّة بنظره ليست أهمّ من النظم والقوانين.
قد يلجأ الشباب اللبناني إلى المساكنة تمرّدًا على المجتمع، أو لكسر المحرّمات وتنفيس الكبت المُنزل عليه، أو تعبيرًا عما يؤمن به ويعبّر عنه … تعدّدت الأسباب لكن النتيجة واحدة : “المساكنة واقع معاش، شاء من شاء وأبى من أبى”، فهل يجوز اعتبار كلّ ظاهرة جديدة في المجتمع اللبناني وليدة التمثّل بالغرب خصوصًا أنّ تبنّي توجّه ما يحتم وجود تربة خصبة له؟ ما هي الأطر القانونيّة والاجتماعيّة التي تنظّم علاقة المساكنة؟ ما هي الآثار المترتبة عنها؟ وماذا لو نظّمت هذه الظاهرة ووضعت أطر قانونيّة لها لمعالجة المشكلات المتولّدة عنها ولعل أبرزها ما يسمّى بـ “أولاد الزنى”؟
ما لها وما عليها
زاهي (46 عامًا) اختار العيش تحت سقف واحد مع شريكته من دون زواج إيمانًا منه بأنّ الزواج يقتل الحبّ، وبأنّ العلاقة بين الرجل والمرأة لا تحتاج إلى عقود وعهود. يقول زاهي لـ”النهار: “تعرّفت إلى نساء كثيرات لكني لم أتشجّع يومًا على الزواج وتأسيس عائلة وإنجاب الأولاد خصوصًا بعد طلاقي، إلى حين تعرّفت إلى رولا (37 عامًا) التي وافقت على أن نسكن معًا تحت سقف واحد من دون الاكتراث إلى المجتمع. الحبّ والاحترام لا يحدّدان بإطار ديني واجتماعي، بل هما ثقافة وقناعة وتجربة حياة. المساكنة مسؤوليّة وتقاسم حياة وهموم ومشاعر، وليست للتسلية أو ممارسة الجنس لأنّه مباح وأينما كان في لبنان، وأسبابها قد لا تكون اقتصاديّة، وإنّما خيار الشخص في أنّ يعيش حياته وفق الطريقة الأنسب له”.
وفي حال أثمرت هذه العلاقة جنينًا، ماذا يكون الحلّ؟ يردّ : “نحن متفقون راهنًا على مسألة إنجاب الأولاد، لكن في حال حصل الأمر بالتأكيد لن نلجأ للإجهاض، ولن أسجّل ولدي مع عبارة “غير شرعي” التي توضع على قيده، لذلك قد نلجأ للزواج خصوصًا أنّه لا يوجد أي قانون مدني ينظّم هذه العلاقات وما ينتج عنها”.
تسرد مايا قصّتها لـ”النهار”، وتقول : “جرّبت المساكنة من دون علم أهلي، فأنا أعيش في بيروت بحكم عملي وأهلي في الشمال. فكانت فرصة لأعيش هذه التجربة مع شخص أحببته لدرس إمكاني إكمال حياتنا معًا واكتشفنا العكس، فنحن لم نتفق. لست نادمة على هذه التجربة، لأنّ الندم الأكبر كان لو تزوّجنا وطلّقنا لاحقًا أو اضطررنا للعيش معًا مع المشكلات كلّ حياتنا. هناك تبعات اجتماعيّة قد أتحمّلها في حال قرّرت الارتباط لأنني عشت هذه التجربة المحرّمة اجتماعيًا، لكني بالتأكيد لن أتزوّج من رجل لا أتفق معه على المستوى العلائقي والثقافي والمعاييري. عن إمكاني إعادة التجربة التي قد تثمر جنينًا، تردّ : “ربّما أعيدها، في حال أثمرت العلاقة جنينًا سيكون الخيار صعبًا، ربّما أجهض أو نتزوّج مدنيًا”.
دينيًا : المساكنة زنا
تتفق المسيحيّة والإسلام على رفض هذه الظاهرة، ويعتبران أنّ سكن شخصين مع بعضهما من غير عقد زواج، غير شرعي وزنا، باعتبار أنّهما يعيشان في الخطيئة وأنّ المساكنة تشجّع على الرذيلة. فالزواج في المسيحيّة عقد وعهد وهو غير متوافر في المساكنة، فيما الإسلام يشترط لسكن رجل وامرأة تحت سقف واحد أنّ يكون بينهما عقد شرعي أي الزواج، حفاظًا على الأسرة والمجتمع.
القانون لا يمنع ولا ينظّم
من جهة أخرى، يقول المحامي جوزف جلخ لـ”النهار” : “القانون اللبناني لا يعاقب على المساكنة ولا يوجد نصّ حولها، لكن يمكن الإشارة إليها كإخلال بالآداب العامّة وتصويرها على أنّها دعارة سريّة، أو في حال كان أحد الشريكين تحت سنّ الواحدة والعشرين. لكن المساكنة حرفيًا غير منظّمة في القانون اللبناني ولا عقاب لها انطلاقًا من مبدأ أنّ لا جريمة من دون نصّ”.
ويضيف : “المشكلة تكمن في الأطفال الذين يولدون من علاقة مماثلة، فالقانون لا يعترف بهم ويعتبرون أطفالًا غير شرعيين (أولاد زنا)، إضافة إلى مشكلات أخرى قد تنجم عند وقوع خلاف بين الطرفين، فيدّعي أحدهما وجود عقد زواج شفهي فتأخذ الخصومات القضائيّة وقتًا للفصل فيها وإثبات النسب”.
قوننة المساكنة ممكنة؟
وعن إمكان قوننة المساكنة وإعطائها تعريفًا وتنظيمها في القانون اللبناني بغية إيجاد حلول لما قد ينجم عنها وخصوصًا في ما يتعلّق بالأولاد، إسوة ببعض الدول الغربيّة، يؤكّد جلخ أنّ الموضوع لم يُطرح يومًا للمناقشة، ويقول : “لا يمكن مناقشة هذا الموضوع، وهو خارج البحث، في وقت ما زال الزواج المدني القائم على عقد مثار جدل في الدولة اللبنانيّة، وبالتالي كيف سيتمّ تشريع قيام رابط أو علاقة بين طرفين من دون عقد أو زواج؟ المساكنة مرفوضة مجتمعيًا ودينيًا، لأنّ نظام الأحوال الشخصيّة في لبنان خاضع للطوائف. قد يبجث في الموضوع متى شرّع قانون مدني للأحوال الشخصيّة بمعزل عن الطوائف ولكنّه موضوع متطوّر وسابق لعصره”.
الصراعات تقود إلى تبنيها
في المقابل، تقول الاختصاصيّة في علم الاجتماع، إليان متى، لـ”النهار” : “يلجأ البعض إلى المساكنة والعيش معًا من دون زواج برغم المحظورات الاجتماعيّة والدينيّة، بهدف التعرّف إلى الشريك، وسيئاته وحسناته وعاداته. أو بسبب عزوفهم عن الزواج والرغبة في إقامة علاقة جنسيّة سهلة. المساكنة حالة موجودة وقائمة في المجتمع اللبناني، كانت لفترة معيّنة سريّة ثمّ أصبحت علنيّة في حالات كثيرة”.
وتضيف متى : “فترة المساكنة لا تطول عادة أكثر من أربع سنوات، وهي إمّا تنتهي بالزواج أو بالانفصال، لكنها تساعد على التنفيس النفسي والجنسي خصوصًا أنّ العلاقة الجسديّة هي من أساسيّات الحياة المشتركة ولا يمكن إهمالها سواء في المساكنة أو الزواج”.
وتؤكّد أنّ سبب انتشارها يعود إلى العولمة والانفتاح على كلّ الوسائل الإعلاميّة الأجنبيّة التي باتت مصدرًا للمعلومات ولبث ثقافة جديدة، فتفشّت في مجتمعنا الذي يعيش صراعًا قيميًا. وتبني البعض لظواهر معيّنة ما هو إلّا مرحلة من مراحل البحث عن استقرار ثقافي يرضي نزعة التقدّم لديهم.
في حال اللجوء إلى الزواج، العامل الأساسي الواجب توافره لاعتبار أي طفل شرعي وفق القانون اللبناني، ماذا يبقى من روابط المساكنة إن كانت نهايتها الزواج؟ وفي حال اجهاض الجنين، هل هو حلّ للمشكلة حفاظًا على مفهوم المساكنة أم هي جريمة ترتكب لمحو آثار ومخلّفات هذه العلاقة؟ فهل نحن فعلًا أمام مطلب قانون مدني ينظّم هذه الظاهرة وما ينجم عنها؟