قبل 60 عاما في مثل هذا الأسبوع، منيت القوات الفرنسية بهزيمة نكراء على يد القوات الفيتنامية في معركة “ديان بيان فو”. وكما يوضح المؤرخ جوليان جاكسون، فإنها كانت نقطة تحول في تاريخ الدولتين، وفي الحرب الباردة، ومعركة دفعت البعض في الولايات المتحدة على ما يبدو للتفكير في استخدام الأسلحة النووية.
“هل تود الحصول على قنبلتين ذريتين؟”، كانت هذه هي الكلمات التي تذكرها دبلوماسي فرنسي بارز، وقيلت على لسان وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون فوستر دالاس في إطار عرض قدمه لنظيره الفرنسي جورج بيدوه في أبريل/نيسان عام 1954.
وكان سياق هذا العرض الاستثنائي هو المأزق الشديد للجيش الفرنسي في قتال القوات القومية في معركة “ديان بيان فو” في مرتفعات شمال غرب فيتنام.
ويُلقي تورط الأمريكيين لاحقا في فيتنام في الستينيات من القرن الماضي بظلاله في الوقت الحالي على معركة “ديان بيان فو”. لكن على مدى ثمان سنوات بين عامي 1946 و1954، خاض الفرنسيون حربهم الدامية للحفاظ على إمبراطوريتهم في الشرق الأقصى.
وبعد أن استولى الشيوعيون على السلطة في الصين عام 1949، أصبح هذا الصراع الاستعماري ساحة معركة رئيسية للحرب الباردة. تحملت أمريكا تكاليف الجهد الحربي لفرنسا، لكن الجنود الفرنسيين هم الذين كانوا يقاتلون ويقتلون، وبحلول عام 1954، بلغ عدد القوات الفرنسية في “اندو تشينا” أكثر من 55 ألفا.
وفي نهاية عام 1953، قرر قائد القوات الفرنسية نافاريه إقامة حامية عسكرية محصنة في وادي ”ديان بيان فو“ في المرتفعات على بعد نحو 280 ميلا من هانوي عاصمة الشمال. وكان يحيط بالوادي مجموعة من الهضاب والجبال التي تغطيها الغابات .
وكان هذا الوضع مناسبا للدفاع، بشرط أن يتمسك الفرنسيون بمواقعهم في التلال الداخلية والحفاظ على الإمدادات لمواقعهم من خلال الجسر الجوي.
وكان الأمر الذي لم يقدره الفرنسيون جيدا هو قدرة الفيتناميين على حشد المدفعية خلف هذه التلال. نقلت هذه المعدات من خلال عشرات الآلاف من العمال الكادحين، كان أغلبهم من النساء والأطفال، والذين كانوا ينقلون هذه المواد على مسافة تمتد لمئات الأميال عبر الأحراش ليلا ونهارا.
وفي 13 مارس/آذار، أطلق الفيتناميون وابلا هائلا من نيران المدفعية، وفي غضون يومين، استولت القوات الفيتنامية على اثنين من التلال المحيطة، ولم يعد مجديا استخدام الجسر الجوي. وعزلت القوات الفرنسية آنذاك، واشتد الخناق عليها.
وكان هذا الموقف الصعب هو الذي دفع الفرنسيين إلى طلب المساعدة العاجلة من الولايات المتحدة. وكان من بين القادة الأكثر تشددا في جانب الحليف الأمريكي نائب الرئيس ريتشارد نيكسون، الذي لم يكن لديه سلطة سياسية، والأدميرال رادفورد رئيس الأركان المشتركة للجيش الأمريكي. ومن بين القادة المتشددين بعض الشيء كان وزير الخارجية الأمريكية آنذاك جون فوستر دولز، الذي كانت تسيطر عليه فكرة شن حملة ضد الشيوعية.
وكان الأكثر تحفظا هو الرئيس الأمريكي أيزنهاور، الذي عقد مؤتمرا صحفيا في أوائل إبريل/نيسان أعلن فيه عن “نظرية الدومينو” المعيبة، بشأن انتشار الشيوعية من دولة إلى أخرى.
وقال أيزنهاور آنذاك: “لديك صف من قطع الدومينو قائمة، وتقوم بدفع أول قطعة، والذي سيحدث للقطعة الأخيرة بالتأكيد هو الذي ستمر عليه سريعا جدا، ولذا يمكن أن تكون لديك بداية للتفكك، وسيكون لها أعمق التأثيرات.”
وسُجل يوم السبت، الثالث من إبريل/نيسان عام 1954 في التاريخ الأمريكي بوصفه “اليوم الذي لم نخض فيه الحرب”. في هذا اليوم، التقى دولز بقادة الكونغرس الذين كانوا متمسكين برأيهم بعدم دعم أي تدخل عسكري إلا إذا شاركت بريطانيا. وأرسل أيزنهاور خطابا إلى رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل يحذره من عواقب سقوط “ديان بيان فو” على الغرب. ويُعتقد خلال تلك الفترة، وفي اجتماع عقد في باريس، أن دولز قدم هذا العرض المفاجئ بتوفير أسلحة نووية تكتيكية للفرنسيين.
في واقع الأمر، لم يكن دولز مخولا بتقديم مثل هذا العرض، ولا يوجد دليل قوي على أنه فعل ذلك. ويبدو من الممكن أنه وسط هذه الأجواء المضطربة، ربما أساءت فرنسا فهمه في وقت كان يسيطر عليها الذعر، أو أن المعنى المقصود فُقد خلال الترجمة.
وقال موريس شومان وزير الخارجية السابق قبل وفاته عام 1998 “إنه لم يقدم عرضا بالفعل، لقد قدم اقتراحا، ووجه سؤالا، وتلفظ بالكلمتين القاتلتين “قنبلة نووية”. وأضاف “استجاب بيدو على الفور وكأنه لم يأخذ هذا العرض على محمل الجد”.
ووفقا للبروفيسور فريد لوغفال من جامعة كورنيل، فإن دولز “على الأقل تحدث بشكل عام للغاية عن تلك الإمكانية، وعن رأي الفرنسيين بشأن إحتمال استخدام قنبلتين نوويتين أو ثلاثة بشكل تكتيكي ضد مواقع الأعداء هذه”.
وقال إن بيدو رفض لأنه كان يعرف أنه إذا تسبب هذا في مقتل عدد كبير من القوات الفيتنامية “فإنها ستدمر أيضا بشكل أساسي الحامية العسكرية ذاتها”.
كانت الأيام الأخيرة من معركة “ديان بيان فو” مرهقة للغاية، وقد تحولت الأرض إلى طين مع بدء الرياح الموسمية، وتشبث الرجال بالرافعات والخنادق في أوضاع تذكر بمعركة فيردون التي وقعت عام 1916. وفي السابع من مايو/آيار عام 1954، وبعد حصار دام 56 يوما، استسلم الجيش الفرنسي، وكانت الحصيلة النهائية لقتلى الجنود الفرنسيين 1142 قتيلا، بينما كان هناك 1606 من المفقودين، وأصيب نحو 4500 آخرين بجروح بليغة، في حين بلغت حصيلة قتلى القوات الفيتنامية 22 ألف جندي.
وفي تاريخ إنهاء الاستعمار، كانت هذه هي المرة الأولى التي يُمنى فيها جيش أوروبي متمرس بهزيمة حاسمة في معركة فاشلة، ومثلت نهاية للإمبراطورية الفرنسية في الشرق الأقصى، وكانت مصدر إلهام للمقاتلين المناوئين للاستعمار. ولم يكن مصادفة أنه وبعد أسابيع قليلة، اندلع تمرد عنيف في الجزائر التي كانت تخضع للاستعمار الفرنسي، والتي مثلت بداية لحرب دامية استمرت ثمان سنوات.
وتمسك الفرنسيون بشدة بوجودهم في الجزائر، وهذا يعود جزئيا إلى رغبتهم في إستعادة الشرف الذي يشعرون أنهم فقدوه في معركة “ديان بيان فو”. وتمسك الجيش الفرنسي بهذه الفكرة بشدة حتى أنه في عام 1958 دعم انقلابا ضد الحكومة، نظرا لأن الجيش كان يعتقد أن الحكومة تحضر لما وصفه الجنرالات بـ ‘معركة ديان بيان فو’ دبلوماسية”.
وأعاد هذا الانقلاب إلى السلطة الجنرال دي غول الذي أقام النظام الرئاسي الجديد الموجود في فرنسا حاليا. ولذلك، لا تزال تبعات معركة “ديان بيان فو” يتردد صداها في فرنسا.
وقد كان ذلك أيضا في عام 1954، حينما بدأت فرنسا العمل على بناء سلاحها الخاص للردع النووي.
لكن بالنسبة للفيتناميين، كانت “ديان بيان فو” هي الجولة الأولى فقط، إذ انغمس الأمريكيون، الذين رفضوا الانخراط مباشرة في الحرب عام 1954، تدريجيا في حرب فيتنام الثانية خلال الستينيات من القرن الماضي.